قراءة في كتاب ما المعرفة؟ لدنكان بريتشارد

أسامة الوليدي   
أستاذ باحث
قراءة في كتاب " ما المعرفة ؟ " لدنكان بريتشارد                  
تــقــديـــــــــــــــــــم:
يقصد بالمعرفة عموماً، ذلك الفعل الذي تمارسه الذات لتعلم موضوعاً ما. فهي إذن علاقة بين الذات ( الإنسان) ومواضيع ذات طبيعة مختلفة، كما أن المعرفة من جهة أخرى هي حصيلة ذلك الفعل الذاتي المسمى معرفة حينما نقول هذا شيء معروف أو معلوم بمعنى صار في صيغة معرفة، هكذا تدل المعرفة على فعل المعرفة وعلى الشيء المعروف.
إن تحليل المعرفة الإنسانية من شتى نواحيها، يوشك أن يكون هو الشغل الشاغل للفلسفة منذ القرن السابع عشر حتى اليوم، أو هو على الأقل أهم مشكلة تناولتها الفلسفة في هذه الفترة من تاريخها، ولو تتبع هذه المشكلة مؤرخ ليرى كيف نشأت ثم كيف نمت وتطورت وتعددت فيها الآراء وتشعبت المذاهب، لوجد نفسه متتبعاً لتاريخ الفلسفة في عصرها الحديث، بل إن في وسعنا أيضاً أن نقول إن نظرية المعرفة تحتل اليوم في نظر الكثير من المفكرين والمثقفين مكانة الفلسفة ذاتها، حتى أن البعض يرى أنها هي الفلسفة.
من خلال قراءتي لهذا الكتاب الجدير بالقراءة والمطالعة الذي يناقش فيه الكاتب دنكان بريتشارد مسألة جوهرية ومهمة تتعلق بمبادئ علم "نظرية المعرفة" أو ما يعرف ب "الإبستيمولوجيا"، يتضح لي جلياً بأنه كتاب رائع و المكتبة العربية في حاجة ماسة إليه، حتى يشفي غليل المهتمين بأحد المباحث الفلسفية الكبرى ألا وهو مبحث المعرفة الذي اختلفت فيه التيارات وتعددت فيه المذاهب والإتجاهات بخصوص أنواعها وأنماطها ومصادرها، وما زاد أهمية وجمالية الكتاب اعتماده على التدرج في عرض الأفكار، حيث يتدرج مع القارئ باستخدام أهم وأكثر الأمثلة شيوعاً في الابستيمولوجيا بأسلوب سلس وسهل لكن لا ينفي ما سبق للتركيز الشديد عند تناوله لتلك الأمثلة والتعريفات، إنه كتاب مهم إلى درجة كبيرة حيث يعرض أساسيات نظرية المعرفة بدون تعقيدات كثيرة أو غموض، وينتهي كل فصل من فصوله بخلاصة للنقاط الأساسية التي وردت فيه، مع بعض الأسئلة التي تفيد بالمراجعة والنقاش، وهناك أيضاً قائمة ترشح فيها مراجع تمهيدية ومتقدمة لغرض التوسع في القراءة، إضافة إلى قائمة بالمصادر والمراجع المفيدة التي تطرح مجاناً على شبكة الانترنيت ولها صلة بمادة ذلك الفصل.
إن كتاب "ما المعرفة ؟" يسعى ليكون مرشداً للقارئ في سبر أغوار نظرية المعرفة، فهو كتاب رائع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، سلس في طرح وعرض الأفكار مع ما يوافق العقل البشري، يحتاج فقط إلى التركيز أثناء القراءة، وعدم المرور على الأمثلة المذكورة مرور الكرام، ويقدم المحتوى بطريقة ممتازة جداً، وبشكل سلس ومختصر ومنظم بعيداً عن التشتت والضبابية. ويحاول أن يتجنب فيه الباحث استعمال المفردات الفلسفية المعقدة، وحتى إذا وردت مفردة فنية صعبة فإنها ستكون مشروحة في نهاية الكتاب ضمن ملحق خاص، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأمثلة التوضيحية التي قدمت أثناء المناقشة، أو الأفكار التي تضمنتها، فهناك ملحق آخر يلخص الأمثلة الرئيسية التي وردت في النص لغرض توضيح الأفكار.
يمكن القول أن ما يميز هذا ااكتاب هو إبحار مؤلفه وطوافه في عالم المعرفة الذي يجمع الكثير من البحار والشواطئ والأنهار في مسار واحد، محاولا - وقد نجح- أن يضع الأسس الصلبة لكل من يريد الإبحار في هذه العوالم الغنية بكل أنواع العلوم والثقافة.
وللإشارة فإن الباحث الأكاديمي البريطاني وأستاذ الابستيمولوجيا في جامعة أدنبرة في المملكة المتحدة دنكان بريتشارد يتناول في هذا الكتاب المترجم إلى العربية " ما المعرفة ؟" مواضيع أساسية  وجوهرية، يرى أنها ضرورية لفهم «المعرفة»، من التعريف الكلاسيكي لها إلى تعيين قيمتها وتركيبتها، ثم يجول في تحديد مصادرها، فيعرج على مسائل الإدراك الحسي، والشهادة والذاكرة، البديهة والاسـتدلال، مشكلة الاستقراء، المعرفة الأخلاقية، الشكوكية، والحقيقة والموضوعية.
إن البحث في جوهر المعرفة وعوالمها والطواف في ثناياها ومفهومها - كما فعل دنكان بريتشارد مؤلف هذا الكتاب- ليس بالأمر المستحيل، وهذا ما يمكن أن يلمسه بوضوح قارئ الكتاب، الذي قسّمه المؤلف إلى ثلاثة أجزاء تشتمل على العديد من الفصول، حيث أن الكتاب يضم 14 فصلاً تبتعد عن الإسهاب والغموض، وتقع ضمن ثلاثة أجزاء رئيسية، يتناول الجزء الأول المعنون ب ما المعرفة ؟ موضوعات عامة ضمن إطار نظرية المعرفة وتطرح فيه جملة من التساؤلات، على سبيل المثال:" ما المعرفة ؟ " ويشمل على ستة فصول، أما الجزء الثاني فيحمل عنوان "ما مصادر المعرفة ؟ " ويضم خمسة فصول ويلقي الضوء على الموارد والمصادر التي تستمد منها المعرفة ويتفحص دور الإدراك الحسي والذاكرة مثلاً في المساعدة على اكتساب المعرفة والتمسك بها وينتهي هذا الجزء بتحليل نمط محدد من أنماط المعرفة وهي المعرفة الأخلاقية، ويطرح تساؤلاً عن مصدر اكتساب هذا النوع من المعرفة، على افتراض أننا نملك شيئاً منها، أما بخصوص الجزء الثالث والأخير المعنون ب " هل نعرف أي شيء ؟ " فهو يتطرق إلى نقاشات يعتريها شيء من التشكك بهدف إظهار أن امتلاك الإنسان للمعرفة أو على الأقل بعض أنواع المعرفة شيء من المستحيل أن يتحقق.
      لينتقل الكاتب بعد ذلك إلى فقرة أخرى، يحاول فيها الانتقال من البساطة والسلاسة في طرح موضوعه إلى ما يمكن أن نسميه ببدء العصف الفكري، وحشد القارئ لدخول مواجهة معرفية حقيقية، فبعد عدة أسطر من المدخل، يطرح تساؤلا مهما، يقول، ولكن ما الشيء المشترك في كل حالات المعرفة هذه؟ ويتوجه للقارئ بصورة حادة ومباشرة، طالبا منه التفكير مرة أخرى في الأمثلة التي طرحها.
وفي هذا الإطار يقول مؤلف الكتاب: "نحن نهتم بالمعرفة، لأنها ذات أهمية جوهرية للحياة، التي تنطوي على قيمة تجعلها تستحق أن يعيشها المرء، وربما كانت مسائل الإبستمولوجيا ذات طابع تجريدي، غير أن أهميتها لحياتنا مسألة مؤكدة"، وهذه هي الفكرة التي ينهي بها المؤلف كتابه.
ويعلق الناشر، قائلاً: "إنه جرى تأليف هذا الكتاب بأسلوب يسهل قراءته قدر الإمكان، ليكون مرشداً للقارئ في فهم نظرية المعرفة، مع تجاوز أكبر قدر من التعقيدات التي ترتبط بهذا الموضوع، وينتهي كل فصل من فصوله بخلاصة للنقاط الأساسية التي وردت فيه، مع بعض الأسئلة التي تفيد في المراجعة والنقاش".

يجري التعامل مع المعرفة ونظريتها على أنها من المسائل البديهية التي لا تحتاج إلى تأمل وتدقيق وتمحيص. وفي الواقع، ثمّة خطأ كبير في هذا التصور لأنّ نظرية المعرفة أو الابستيمولوجيا تعتبر من المسائل الفكرية الشديدة التعقيد وتتسم بحد كبير من التجريد. لعلّ هذه الصعوبة هي وراء عزوف كثير من المثقفين عن البحث في المعرفة ونظريتها، ويشبه الكاتب المعرفة بلوحة بيكاسو قد نفهم أو لا نفهم أسرار شكلها وألوانها، كما يشبهها أيضاً برواية من روايات جيمس التي يصعب استيعاب معانيها، وهذا يدل على صعوبة فهم واستيعاب المعرفة. و يأتي هذا الكتاب "ما المعرفة ؟" ليسدّ ثغرة في البحث عن نظرية المعرفة، وهو بحث في حاجة ماسة المكتبة العربية إليها عموماً والمغربية خصوصاً.
يعرض هذا الكتاب مجموعة من الأفكار الرئيسية، البعض منها أتفق معها والبعض الآخر أعارضها وأخالفها، وليس من أجل المعارضة فقط وإنما أجل النقد البناء والفعال الذي يساهم في الإقتراب أكثر فأكثر من المعارف الصحيحة والدقيقة، والفكرة الأولى التي يبدو لي أن الباحث على صواب هي الفكرة التي تتعلق باهتمامنا بالمعرفة نظراً لدورها وقيمتها في الحياة فهي أساس كل شيء والباعث وراء عيش الإنسان ولأن قيمة هذه الحياة تكمن بالمعرفة، وفي هذا الصدد يقول الكاتب : " نحن نهتم بالمعرفة لأنها ذات قيمة جوهرية للحياة التي تتضمن قيمة تجعلها تستحق أن يعيشها الإنسان، ربما كانت مسائل الإبستيمولوجيا ذات طابع تجريدي، بيد أن أهميتها لحياتنا مسألة حيوية بكل تأكيد"، وهذه هي الفكرة التي تخلص إليها من خلال هذا العمل الجدير بالقراءة.
في الفصل الأول من الكتاب المعنون بأنماط المعرفة يجيب الكاتب وبكل صراحة أن الإجابة على سؤال بهذا الحجم (ما المعرفة؟) قد تكون صعبة وسهلة في نفس الوقت، لأن لفظة المعرفة بحد ذاتها واسعة ومتشعبة وليس من السهل الإلمام بجميع جوانبها وتشعباتها، وقبل الولوج والدخول في صلب الموضوع يناقش الكاتب ما يسميها بعض المسائل التمهيدية، من خلال البحث في أنماط المعرفة، منوها إلى أنه على المرء أن يفكر ملياً في كل الأشياء التي يعرفها حالياً أو على الأقل تلك التي يتصور أنه يعرفها، منها أن الأرض كروية، وباريس عاصمة فرنسا، وأنك تعرف على سبيل المثال أن كل الأشخاص العزاب هم غير متزوجين، وأن "العراب" فيلم رائع، حتى يتسنى للقارئ معرفة الشيء المشترك بين هذه المعارف وهي معارف إفتراضية حسب الكاتب، ويؤكد أن قارئ الكتاب حين يصل إلى نهايته ينبغي أن يصبح قادرا على أن يعدّ نفسه مطلعا عن كثب على موضوع "الإبستمولوجيا" أو ما يعرف بنظرية المعرفة.
وينتقل بعد ذلك إلى تقسيم المعرفة إلى نوعين قبل شروعه في دراستهما بالتفصيل وإبراز الإختلاف بينهما وهما المعرفة الإفتراضية ومعرفة القدرة أو معرفة الطريقة التي تمارس بها فعالية أو نشاطاً معيناً فهذه الأخيرة تعتبر نمطاً مهماً من أنماط المعرفة التي ينبغي أن يمتلكها الإنسان، يقول الكاتب " إننا نحتاج إلى الكثير من هذه المعرفة بالقدرات، مثلا طريقة ركوب الدراجة الهوائية أو سياقة الدراجة"، أما المعرفة الافتراضية فتتعلق بـ"افتراض" معين، أي أن الإفتراض هو ما تخبرنا به جملة معينة وتؤكد أو تثبت أنه شيء موجود ومتحقق في الواقع، كما ذكرنا بعض الأمثلة عن العرّاب وغيرها. ويقول " إن المعرفة الإفتراضية تقتصر على كائنات متطورة نسبياً من الناحية العقلية مثل البشر وحدهم" ،أما معرفة القدرة تكون شائعة أكثر، وبالتالي تفوق المعرفة الإفتراضية في أهميتها على الأنماط الأخرى للمعرفة ومن بينها معرفة القدرة، وتلك الأهمية تتجلى في أن المعرفة الإفتراضية تستلزم مسبقاً وجود نوع من القدرات الفكرية المتطورة نسبياً التي يمتلكها بنو البشر، ويتبين من خلال هذا أن الكاتب على صواب لأن المعرفة إما تكون معرفة إفتراضية أو معرفة قدرة.
أما بخصوص متطلبات أساسية للمعرفة فيؤكد الباحث على أنه من أجل التوصل إلى المعرفة بشأن افتراض معين، ينبغي أن يكون ذلك الإفتراض حقيقياً، ومن الضروري أن يعتقد الإنسان فيه، كما أن الإعتقاد الحقيقي وحده لا يكفي للتوصل إلى المعرفة، لأنه ربما حصل لدى الإنسان اعتقاد حقيقي بمحض الصدفة، وبالتالي فمجرد الإعتقاد بما هو حقيقي لا يمكن أن يجعل ذلك الإعتقاد حقيقياً بالفعل.
وبالتالي يقول الكاتب: يحتاج الإبستيمولوجيين إلى أن يوضحوا الأشياء التي تتعين إضافتها إلى الإعتقاد الحقيقي من أجل ترسيخ فكرة أن المعرفة على العكس من الإعتقاد الحقيقي تتضمن إنجازاً يحققه الإنسان وينسب إليه، وهذا يعني أيضاً أن الإعتقاد الحقيقي لا يرتبط ببساطة بالحظ.
إن الجميل في هذا الكتاب هو أن المؤلف يعتمد أسلوب طرح الأسئلة، ليضع القارئ لفصول كتابه أمام مسؤولية المشاركة في فهم الموضوع المطروح ومن ثم التفاعل معه، وهو أسلوب يتوخى فيه البحث في جميع الزوايا انطلاقا من اللبنة الأولى للفكرة وصولا إلى بنيتها وصورتها النهائية، فنجده في بحثه عن قيمة المعرفة، يتساءل بالقول، من الأسئلة التي نادراً جدا تطرح في الإبستمولوجيا، سؤال يتعلق بجانب ربما كان من أكثر الجوانب أهمية ضمن هذا الحقل الفلسفي، ذلك السؤال هو ترى لماذا نهتم بما إذا كنا نمتلك معرفة أم لا ؟ وهذا يقود القارئ إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يتعلق الأمر بمسألة "قيمة المعرفة".
إن من الإهتمامات الأساسية للإبستيمولوجيا تتجلى في تقديم تفسير لقيمة المعرفة، لكن عندما نعطي قيمة للمعرفة فإن الأسباب التي تدفعنا إلى ذلك تبقى مبهمة وغير جلية، ولا تبدو طبيعة هذه القيمة واضحة، فمن الوسائل التي يمكن استخدامها في هذا المجال ما يتصلّ بالاعتقادات الحقيقية التي يحملها المرء ومدى فائدتها. المشكلة هنا تكمن في ما إذا كانت هذه الاعتقادات ذات قيمة فعالة. فإذا كنا نريد الحصول على المعرفة، يجب أن يكون هناك تبرير لما نعتقد، فعلى سبيل المثل ثمة ما يعرف بـ «الترابطية المنطقية» التي تنص على سلسلة دائرية من الأدلة «ما دامت تمتاز بالخصائص الصحيحة أيا يكن نوعها، فيمكنها أن تبرر الاعتقاد".
وثمة أيضا ما يعرف بـ «التأسيسية» الكلاسيكية، وهي التي دافع عنها الفيلسوف الفرنسي ديكارت، وهي تقول: " إن هـناك بعـض الأدلة التـي لا تتـطلب أي إسناد إضافي، ويمكنها بالتالي أن تفيدنا كأسـس داعمـة للاعتقادات التي تستند إليها"، وتـطرح المـعرفة مـسـألة تتصل بـ «الموثوقية»، وهي تنص عـلى أن المعرفة اعـتقاد حـقــيقي يــتم التوصل إليه بطريقة موثـوق بها.
قد يرى البعض أن قيمة المعرفة تتحدد في المجال أو الأفق الذي يحتاجه شخصيا أو ضمن جماعة أو فئة عاملة في محيط معين، في حين تجد الحقول والفئات الأخرى ذات القيمة أو ربما أكثر للمعرفة، فتكون القيمة الجمعية للمعرفة أكثر شمولا وأوسع أفقا، مما يمنح حقولها أهمية استثنائية في مجمل أوجه الحياة وتداخلاتها وتشعباتها، يقول بريتشارد في هذا الصدد " إذا كانت المعرفة تقدم حلولا للكثير من المشاكل والمعضلات، فإنها في نهاية المطاف تمثل علاجات جاهزة لأمراض الجهل والأمية، مما يفتح النوافذ أمام المعرفة لطرق الكثير من الأبواب وفي مختلف الأزمنة وفي جميع بقاع المعمورة".
ويرى المؤلف أن من الوسائل التي تساعد على فهم قيمة المعرفة أن يلاحظ المرء أن بإمكانه "معرفة" الشيء الحقيقي فقط، وأن شرط الحقيقة في اعتقادات الإنسان يبدو حقا شيئا ذا قيمة، وإذا عرفنا أن الحقيقة في الاعتقاد ذات قيمة، وأن المعرفة تتطلب وجود الحقيقة، عندئذ ربما نكون قد قطعنا على الأقل نصف الطريق للإجابة عن السؤال المطروح عن السبب في اعتبار المعرفة ذات قيمة.
إن للمعرفة قيمة فعالة أكبر من مجرد اعتقاد حقيقي ما دامت المعرفة أكثر فائدة بالنسبة إلينا، حيث أن المعرفة تمتاز بالإستقرار على عكس الإعتقاد الحقيقي لأن المرء حين يعرف حقيقة شيء ما في الواقع فذلك لا يمكن أن يحتمل الخطأ بسهولة، حيث أن بعض أشكال المعرفة تكون ذات قيمة جوهرية، لأنها ذات قيمة في ذاتها ( الصداقة، الحكمة...)، عكس الإعتقاد الحقيقي الذي لا يتضمن أي قيمة جوهرية.
ينتقل الكاتب إلى الفصل الثالث محاولاً تعريف "المعرفة" ويطلق المؤلف جملة تثير الحماس لدى القارئ لتعرف طبيعة التعريف الذي يراه للمعرفة، يقول، الشيء المؤكد أن معايير المعرفة بعيدة حقا عن الوضوح، وهذا يستدعي التشكك في فكرة أن بإمكاننا تحديد مثل هذه المعايير من دون الرجوع إلى حالات واقعية للمعرفة، ويرى أن المعيار في هذه المسألة يمثل مشكلة، إذ لا بد أن تعترض أي شخص يرغب في أن يعطي تعريفا للمعرفة-أو يحاول الإجابة عن سؤال "ما المعرفة" مشكلة على الفور، تتمثل في النقطة التي يمكن أن يبدأ منها أو كيف له أن يبدأ، حيث أنه إذا كانت المعرفة من ناحية مفهومها معقدة للغاية حقا، فكيف يحدث أننا نستطيع تحديد حالات للمعرفة بشكل صحيح مع أننا نفتقر إلى استيعاب مسبق لماهية تلك المعايير؟
ينتقل المؤلف من تعريف المعرفة وقيمة المعرفة إلى تركيبة المعرفة مفردا لذلك أحد فصول كتابه، ومخاطباً القارئ بقوله، لتأخذ أي اعتقاد تتمسك به، أي تكون واثقا بأن حقيقة ذلك الاعتقاد شيء لا غبار عليه مثل ثقتك بأي شيء آخر تعتقده، على سبيل المثال اعتقادك بأن الأرض تدور في فلك حول الشمس وليس عكس ذلك، إذا كنت واثقا من هذا الأمر فمن البديهي أنك تعد ذلك الاعتقاد حقيقيا وينبغي على أي إنسان أن يتمسك به، بمعنى آخر هو اعتقاد مبرر. وفي هذا الفصل يجيب الكاتب عن ما الذي يبرر هذا الاعتقاد؟
تمثل العقلانية واحدة من المفاهيم الأساسية بالنسبة إلى الابستيمولوجيين، بحيث ثمة ارتباط وثيق بين توصّل المرء إلى اعتقاد عقلاني محدّد، وبين اكتسابه للمعرفة، وترتبط هذه الأخيرة أي المعرفة إلى حد كبير بالتبرير، مما يعني ارتباطاً بين الاعتقادات التي تمسك بها الإنسانية بعقلانية، وبين تلك الاعـتقادات المـبررة. هـكذا يـساعد فهم الـعـقلانية في تسـلـيط الـضوء على نظرية المعرفة، ويبدوا لي أن الباحث في هذا الإطار يمتدح الناس العقلانيين وينتقد الآخرين نظراً لإفتقارهم إلى العقلانية، ويهتم بنوع محدد من أنواع العقلانية، التي تعرف بـ"العقلانية المعرفية" وهو يؤمن بأن هذا النمط من العقلانية فقط هو الذي له أهمية قدر تعلق الأمر بنظرية المعرفة، باعتبار أن العقلانية المعرفية هي نوع من العقلانية التي تركز على الهدف من الاعتقاد الحقيقي، وفي هذه الفكرة بالضبط أخالفه لأن مصادر المعرفة تتنوع وتختلف بين التجربة والعقل والحدس. ولا يمكن الحسم في هذه القضية والقول بأن مصدر المعرفة هو العقل وليس التجربة أو الحدس، بل المعرفة هي نتاج ما هو عقلي وتجريبي، كما أنه لا يجوز الفصل في العلم بين ما هو تجريبي وما هو عقلي محض، لأن المعرفة هي دائماً تجريبية وعقلية، إنها نشاط ثنائي مركب.
في الفصل السادس بعنوان "مهارات وقدرات" يناقش الكاتب موضوعية الموثوقية، ويرى أن القدرات التي يتمتع بها الإنسان، مثل النظر، هي قدرات إدراكية، وحين تعمل بالصورة المناسبة وفي البيئة التي تناسبها على الأقل فهي تتيح الوثوق بها لاكتساب اعتقادات حقيقية عن العالم.
يخصص المؤلف فصول الجزء الثاني من كتابه لمناقشة مصادر المعرفة وفي مقدمتها مسألة الإدراك الحسي، ويقول بهذا الصدد، تتمثل المشكلة المهمة التي تواجه تجربتنا غير المباشرة في أننا نجعل معرفتنا عن العالم التي نكتسبها عن طريق الإدراك الحسي تستند إلى عملية استدلال وذلك يهدد بعزلنا كليا عن العالم.
لعل الموضوع المتصل بمصادر المعرفة يعتبر من أكثر الأمور إشكالية، فلو أخذنا «الإدراك الحسي» كأحد المصادر، بحيث إن جانباً كبيراً من معرفتنا عن العالم نكتسبه من طريق الإدراك الحسي، اعتماداً على حواس النظر والسمع واللمس، تبدو المشكلة أن الشكل الذي تبدو عليه الأشياء ظاهرياً بالنسبة إلينا لا يعبر دوماً عن حقيقة الأشياء لأن كثيراً من المظاهر تكون خادعة. ويذهب الكاتب إلى اعتبار " إن الشيء المثير للجدل في تجربة إدراكنا الحسي ينتج من الدليل المستمد من الوهم. من حيث الجوهر، يتضمن هذا الدليل انه ما دام الموقف الذي نصبح فيه معرّضين للخداع بشأن الشكل الحقيقي الذي تبدو عليه الأشياء في العالم قد يقودنا إلى أن نتوصل إلى الخبرات ذاتها التي نتوصل إليها في حالة مماثلة، فليس في ذلك خداع. لذلك نستنتج أننا لا نرى العالم من خلال تجاربنا بصورة مباشرة على الإطلاق".
ولقد شكلت مسألة الإدراك الحسي موقعاً مهماً في نظرية الجدل عند الفيلسوف الألماني هيغل الذي يقول في هذا الصدد: " كان الوعي الحسي في تقدير الناس أكثر ألوان الوعي عينية، وهو أكثرها غنى وخصباً، ولكن ربما كان ذلك يصدق بالنسبة إلى ما أمامه من مادة، أما من حيث ما يتضمنه من فكر، فهو في الواقع أكثر ألوان الوعي تجرداً وفقراً".
من مصادر المعرفة أيضاً ما يسميه الكاتب «الشهادة والذاكرة»، بحيث نستمد معرفتنا من شهادات يخبرنا بها أشخاص آخرون. فمن الصعب هنا التأكد بأنفسنا من شأن الكثير مما يخبرنا إياه الآخرون عن الشهادة، وهو أمر قد يكون متناقضاً مع بعض اعتقاداتنا. وإذا انتقلنا إلى الذاكرة، وجدنا أنها تقود إلى المسائل ذاتها التي تقود إليها الشهادة.
وبالنسبة إلى الشهادة، لا نستطيع أن نعتبر أن ذاكرتنا بطبيعتها جديرة بالثقة، مما يستوجب تقديم أدلة معرفية كافية ومعتمدة على أسس مستقلة بغية الوصول إلى المعرفة، وهو أمر ينفي اعتبار الذاكرة مصدراً موثوقاً في المعرفة.
ومن ضمن الأدوات المعرفية ما يعرف بـ «البديهة والاستدلال»، بحيث يوجد فرق شاسع في الفلسفة بين البديهة من جهة، وبين المعرفة التجريبية من جهة أخرى. فالمعرفة البديهية نكتسبها من دون حاجة إلى تفحص العالم، فيما تستوجب المعرفة التجريبية إجراء مثل هذا التفحص للعالم.
في المعرفة البديهية، ثمة ما يعرف بـ "الاستبطان"، بحيث ننظر إلى دواخلنا ونتفحص أوضاعنا السيكولوجية بدلاً من النظر إلى الخارج ونفحص العالم من حولنا. أما في شأن الاستدلال، فيمكن التمييز بين استدلالات استنباطية واستدلالات استقرائية. النوع الأول، ينتقل فيه المرء من الفرضية أو الفرضيات إلى الاستنتاج الذي يفترض أن يكون صحيحاً. أما الأدلة الاستقرائية، فهي في المقابل استدلالات مستمدة من فرضية- أو فرضيات- توفر الإسناد للاسـتنتاج من دون أن يعني ذلك أن الاستنتاج هو صحيح في واقع الأمر.
أما في الفصل العاشر يتناول المؤلف مشكلة الإستقراء حيث يتبين دور الإستقراء في الوصول إلى المعرفة الحقيقية، حيث يقول من خلال الإستقراء فقط نتمكن من الحصول على أمل في التوصل بطريقة منهجية إلى اعتقادات حقيقية عن العالم، فهو أي الإستقراء الشيء الأكثر عقلانية الذي بالإمكان أن يفعله، لأن أي منهج للإستدلال يتيح لنا الوصول إلى اعتقادات حقيقية عن العالم فهو استقراء، وبذلك يمكننا الوثوق من أن الإستقرار هو أفضل منهج متوافر لدينا، حتى إذا لم يكن لدينا أي تبرير له، فما دمنا نريد التوصل إلى اعتقادات عن العالم، فمن العقلاني اللجوء إلى الإستقراء.
وفي الفصل الحادي عشر يتطرق الكاتب إلى المعرفة الأخلاقية التي هي معرفة تلك الإفتراضات التي يتم التركيز من خلالها على حقائق أخلاقية، لكن المؤلف ينفي وجود أي شيء يمكن اعتباره حقيقة أخلاقية مطلقاً، فإذا كانت الحقائق الأخلاقية غير موجودة يتبع هذا مباشرة أنه لا وجود لمعرفة أخلاقية، حيث أن الأحكام الأخلاقية التي يصدرها المرء تعكس إلى حد كبير بعض الجوانب التي تتعلق بشأنه الثقافية.
أما في الجزء الثالث والأخير المعنون ب " هل نعرف أي شيء ؟"، في الفصل الثاني عشر منه المتعلق بقضية الشكوكية بشأن وجود عقول أخرى يقول الكاتب أن مشكلة العقول الأخرى تهتم بحقيقة محددة وهي أننا نبدو عاجزين عن ملاحظة وجود عقل لدى شخص آخر بالطريقة ذاتها التي نستطيع بها مشاهدة الأشياء المادية. في ظل هذا الوضع إذن كيف نتمكن من معرفة وجود عقول أخرى في المقام الأول ؟
من الطرق التي تساعدنا في حل هذه المشكلة الإستفادة من الدليل المستمد من التماثل، الذي يلاحظ فيه أوجه للتشابه بين سلوكنا وحالاتنا الذهنية، وبهذا نجري استنتاجات استقرائية عن الحالات الذهنية للآخرين الذين يتصرفون على نحو مماثل لتصرفاتنا.
أما في الفصل الثالث عشر يتناول المؤلف قضية الشكوكية وهي حركة فلسفية في اليونان القديمة تدعو إلى الشك  في ما لا يتحققه الإنسان بالتجربة، وبالخصوص فهو يتطرق إلى الشكوكية المتطرفة التي تنص على أنه من المستحيل علينا التوصل إلى معرفة الشيء الكثير.
فإذا كان أصحاب النزعة الدوجماطيقية يؤكدون على قدرة الإنسان على إدراك الحقيقة، فإن أصحاب النزعة الشكية ( الشك المذهبي ) قالوا بأن العقل الإنساني عاجز تماماً عن الوصول إلى أي علم أو أية معرفة، فهم يشكون شكاً مطلقاً، وينكرون وجود أية حقيقة، فهم يبدءون بالشك وينتهون إلى الشك، فالشك عندهم ليس وسيلة فحسب، وإنما هو غاية وهدف. أما أصحاب الشك المنهجي فهم يبدءون بالشك من أجل الوصول اليقين، فالشك عندهم ليس غاية أو هدفاً، وإنما هو مجرد وسيلة أو منهج أو أداة للوصول إلى اليقين.
أما في الفصل الرابع عشر والأخير المعنون ب الحقيقة والموضوعية يؤكد الباحث أنه عندما نقول إن الحقيقة ذات صفة موضوعية فذلك يعني أن مجرد التفكير في العالم يتخذ هذا الشكل أو ذاك لا يعني أنه بالفعل هكذا حيث أن هذه الموضوعية تسير جنباً إلى جنب مع مفهوم قابلية الخطأ، لأن الأمر الأساسي في الموضوعية هو أن اعتقاداتنا كانت زائفة.
أما ما يتعلق بالنسبية فهي تتضمن أن الحقيقة هي مجرد ما نعتقد أنه الشيء الحقيقي، وهذه تدحض نفسها بنفسها لأن هذا المقترح يؤدي إلى اعتبار ما يعتقد به الإنسان الذي يؤيد النظرة الواقعية بشأن ماهية الحقيقة شيئاً حقيقياً أيضاً، وهذا يعني القول إن النسبية نظرية زائفة.

خـــــاتــــمــــــــــــــــــــــــــــة عــــــــامــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
في الأخير لا يسعني الوقت إلا لأقول أنه من أجل الوصول إلى المعرفة يتطلب سلوك طرق شائكة، فقد احتل هذا الموضوع المكان الأوسع في كلّ الفلسفات التي عرفتها البشرية، ولعلّ العودة إلى الفلسفات اليونانية قبل سقراط وخلال عهده، ولاحقاً سائر الفلسفات المادية والميتافيزيقية وغيرها، يبيّن أن موضوع المعرفة وكيفية تحققها كانت وما زالت مدار جدل واسع بين الفلاسفة والمثقفين والعلماء.

ولاشك أن التطورات العلمية والثورة التكنولوجية قد أوجدت مفاتيح ومصادر للمعرفة تفرض نفسها يوماً بعد يوم على الفلسفة تحديداً، فلا يبدو أن الجدل حول قواعد ثابتة قد حسم، ولا يظن أحد أنه قد يُحسم في يوم من الأيام.

Commentaires

Enregistrer un commentaire

Posts les plus consultés de ce blog

تحليل درس الرغبة السنة أولى بكالوريا